حِينَ نقفُ أمام مكتبةٍ ما، نحنُ لا نرى نفسَ الشيء، لِكُلٍّ مِنّا صورة
يرسمها في خياله لَحْظَتهَا، البعضُ لاَ يَرى إلاَّ الورق، أغلفةٌ مُلونةٌ، صُورٌ
هنا وهناك، وأثمنةٌ باهظةٌ لا تُعقل! البعضُ الآخر يراها بُحُور معرفة.. سأقرأُ
أكثر سأعرفُ أكثر سأصبحُ أفضل.. وتبقى فئة أخيرة ترى أمامها عوَالمً مُتَداخلة ..
متنافرة ..مع كل عنوان يقعُ نظرها عليه.. تَرْتَسِمُ ملامح عالم في ذهن أصحابها لا
يمُتُّ بصلة إلى أرض الواقع.. ترى في الكتاب سفر بعيد، لا أحد يدري إلى أين! قد لا
نُسَمِّيه سفر بل مَوسِمُ هجرة، فالعودة إلى عالمنا المقيت أمر مفروغ منه..
نودع آخر أوراق الرواية، نتمسك بأطرافها كرضيع بثوب أمه، ومع نهايتها
نفتحُ أعيننا على هذا الواقع.. حيثُ لم تَعُد لأسطوانات بيتهوفن وباخ مكان .. حيث
كل شيء نسخ مكررة، واقع لا نحتاج فيه لكاتب يخبرنا فيم يفكر الآخر، فالتفكير
أصبح يُنسخ على أسطوانات ويُدمج في أذهان الكل.. لا نجد السعادة إلاَّ على الورق
.. ولو كان الجو فيها ممطرا دوما وغائما.. ولو كان الحبيب غائبا.. والوطن
مُمَزَّقٌ فيها حتى الوجع، نَتَلذَّذُ مع كل سطر وكل صفحة، وبعد النهاية ، تظل
تفاصيلها جزء من الذاكرة.
نقارن من قرأناهم بمن نصطدم بهم.. نضع أنفسنا مكانهم آلاف المرات.. نحزن
لحزنهم .. وإن تحرَّروا.. حَرَّرُونَا معهم.. ألمْ نعرفِ الحب أول مرة بين صفحات
نجيب محفوظ؟ ألم نرتبك كما ارتبكت امرأة ذات اصطدام في قصيدة نزارية، ومن علمنا حب
الوطن أكثر من محمود درويش، أو رجب بطل رواية شرق المتوسط، و لمن منا كانت له أمٌّ
أو لم تكن، يكفي أن يقرأ رواية الأم لمكسيم جوركي ليعرف عظمتها.. ورغم درايتنا
بنذالة الواقع، من يكتبه عاريا أكثر من حيدر حيدر ! وتبقى الفئة الأولى التي لا
ترى في الكتب سوى الأوراق و الثمن الباهظ، هي المهيمنة، ترى حبنا للكتاب هروبا من
الواقع، لا غيرنا يدري بأن أكثر من يعرف الواقع هو القارئ !
0 تعليقات