فكرت طويلا في الكتابة عن العفوية، أردتُ أن أنتظر حتى
يحين الوقت المناسب. ها نحن نعانق السنة الجديدة وننفض عنّا غبار السنة الماضية. ولكن هل تغيرنا السنين للأفضل؟ ماذا عن طبيعتنا هل تتغير مع الفصول؟ العفوية قد تبهت قليلا قد تتضاءل، أريد أن أخبركم عنها، أريد أن أخبركم أن
العفوية لعنة، لعنة لا تنكسر بل تكسر الملعون بها.
ليس كل ما نفكر فيه ونشعر به
يُقال، بعض الكلمات تَفقدُ رونقها إذا نُطقت، بعض
الآهات يجب أن تظلّ مكتومة في حناجرنا. حروفها تتبعثرُ وتتكسرُ وتتدلى كالقناديل
في صدورنا، الصدر ألطف بكثير من مشنقة الهواء. لا يستطيع الجميع أن يفعل هذا،
بعضنا ملعون بالعفوية، يبوح بكل شيء ويعترف دون تعذيب أو ضغط ثم إن التعذيب غالبا
ما يأتي بعد الاعتراف.
قصيرة هذه الحياة، ما
العيب في أن نقول كل شيء، أن نضع أوراقنا عارية على الطاولة.. أن ننفجر من حين
لآخر، القبرُ لن يسع ما في صدورنا. سمعت كثيرا أن ليس كل شيء يقال بعض المشاعر
تُفهم من العيون أو المواقف أو.. لكنني لا أطيق هذه المتاهة، حيث سيولد سوء
التفاهم وتُدفَن المشاعر الجميلة، وتتشتت الحقيقة في زوايا المكان.. تُربكني هذه
المتاهة مثلما قد تربكني غُرف المرايا، أين انعكاسي الحقيقي وأين الوهم؟ مرآة
واحدة تكفي.
أن تكون عفويا هي أن
توزع البسمات كأنك توزع البذور في حقل، ابتسامة للنادل وأخرى لبائعة الورد،
ابتسامةٌ لصاحب كُشك الجرائد وابتسامة لشرطي المرور المتعب، لسائق سيارة الأجرة
المتوتر، لطفلة تلهو وحدها في عربة.. كلنا نمتلك رصيدا شاسعا من البسمات ولكننا
نُفضل أن نحدق بحقد في بعضنا البعض، حتى اذا ما فضحت بسمة أحدهم عفويته، يشعر
الآخرون بالتهديد وتطفو في أذهانهم نوايا عديدة، بعضها خبيثة. الابتسامةُ أبسط
بكثير من التجهم.
هل
تحتاج الكلمات لمساحيق تجميل كي يتم استقبالها بصدر رحب؟ الجُمل التي ترتطم بين
جدران رأسنا إذا قيلت كما هي دون تنميق أو تعديل، تصطدم بجدران الواقع
القاسية يُقابلها الصمت القاتل، أو أمر بالصمت. كم هو مُوجع أن يقاطعك
الآخر في لحظة بوح صادق ليأمرك بالصمت، هي صفعة قد تُبقيك صامتا إلى الأبد.
في
الماضي كنت أستغرب صمت بعض أصدقائي، خاصةً في مواقف تتطلب الرفض أو التصريح
بالرأي.. ولكنني حين سألتهم وألححت عليهم كي أعرف سر صمتهم وبرودهم، أخبروني أنهم
تعرضوا للتجاهل مرات كثيرة أو للصد الجارح، حتى تعوّدوا أن يُجادلوا أفكارهم في
صمت، أن يكتفوا بمراقبة ما يحدث حولهم، أن يستمعوا جيدا دون أن يتدخلوا ولو
بكلمة.
هل
ولدنا بآذان كي نسمع بعضنا أم لنُخرس بعضنا البعض. ونغرق في شكوكنا ونوايانا التي
لا صوت في الجوار ليؤكدها أو ينفيها. نتساءل دوما فيم يفكر الآخر، يؤرقنا هذا
السؤال، وحين نجد الفرصة لنعرف أخيرا، نغلق آذاننا وننفرد بنوايانا
الخادعة. هل تُرهبنا الحقيقة لهذه الدرجة؟ هل نفضل أوهامنا وخيالاتنا التي لا
علاقة لها بالواقع؟
الغموض
لذيذ ومثير، لن أنكر هذه الحقيقة. الغموض يدفعنا للبقاء والتنقيب، يُحيي بداخلنا
الرغبة في الاكتشاف، يُعيدنا إلى الطفولة، ولكن إلى متى؟ عاجلا أم آجلا نحتاج أن
نعرف، نتعب من التفكير المضني ويصبح الاعتراف حتميا. الملعون بالعفوية لا يجيد
المماطلة، فاشل جدا في لعبة الغموض اللذيذة، يعترف في وقت مبكر جدا، يبوح بالحب
ويُظهر انزعاجه ويعانق دون مناسبة. الملعون بالعفوية يُبالغ في سقي النبتة حتى
يقتلها بالحب.. الحب اذا زاد عن حده يَقتل، كالماء تماما، قد يُحيينا ولكننا نعجز
عن التنفس تحته.
العالم ليس لطيفا، يعاقب كلماتنا ويستقبل شوقنا وحماسنا بصدر بارد. تُسقطنا
العفوية في مواقف محرجة، مواقف نراجعها قبل النوم كل ليلة، تنخر ذاكرتنا وتعذبنا
وتجعلنا نرغب في ذبح ألسنتنا أو استعادة ما نطقنا به. دوامة التفكير اللامتناهية
لا يسقط فيها الجميع، دوامةٌ تُفقدك التركيز وتسرق من عيونك النوم، وتدفعك للتفكير
ألف مرة قبل البوح.. مما يُشوه حقيقتك وحقيقة بوحك. دوامةٌ تجعلك تلعن عفويتك التي
لم تخترها مثلما لم تختر اسمك ولونك ووطنك.
وجدة في ١ كانون الثاني ٢٠٢١
0 تعليقات