مرارةُ التعَوُّد










ما عادت حركةُ عقاربِ الساعة تُحرّكُ فيّ شيئا، أتأملها بفتور وهي تدور وتدور دون أن يتغير شيء. أحركُ الكأس البارد بين يدي يمينا وشمالا، أفكرُ في تسخين قهوتي، ما الجدوى من تسخينها اذا كانت ستبرد مجددا. يتملكني شعور غريب، كم أشبه هذا الكأس، تتسلل البرودة لكلينا، وكلانا عاجزان عن تغيير الأمر، جدارٌ يَصلبُ الساعة وكأسٌ وحيدٌ وأنا، كل ما حولي ومن حولي مُتوقع. اذا فكرتَ قليلا ستجدُ أن  كل شيء مُتوقع.. من سيتصل، ومن سيراسل ومن سيبدأ الحديثَ وما قد ينهيه، كل شيء مُتوقع، حتى الغزل.. يُصبح مبتذلا حين يظلُّ كلاما فقط. نفس النقاشات في المقهى.. تضجرُ منها الطاولة، نفس الجدال في الفصل كلّ حصة.. تحفظه الجدرانُ الذابلة.

الخوف من الفشل يدفعنا للاستيقاظ كل يوم و المحاولة لنصنع شيئا من أنفسنا، و الخوف من الفقدان يجعلنا نخسر أنفسنا ونضحي بالكثير ونحاول أكثر مما ينبغي. نُوهم أنفسنا أن القادم أجمل، نُوهم أنفسنا أن الآخر سيتغير، فنفتح صفحةً جديدة كل مرة مهما انجرحنا أو يئسنا، نمنحهم فُرصا لا تُحصى ونأمل في كل مرة أن يروننا كما نراهم، نأمل أن يقدروا وجودنا قليلا، وفي كل مرة يصفعنا الخذلان.. يموت شيء بداخلنا، يضأل الحب الذي ظللنا نرويه بكل ذرة فينا.

نتعود على البرودة، نتعود على الوحدة، نتعود على الحياة بلا ألوان، نبكي للوسادة وحدها.. لأنها لا تعرف الشفقة، تتشابه الأيام أكثر من أي وقت مضى، حين يغيب الحب تصبح الحياة ضبابية جدا لا شمس فيها. نُشكك في وجودنا بعد فترة، نعيش بينهم ولا نشعر أنهم يروننا، لا فرق بين وجودنا من عدمه، لكننا نتعود، أكبر جريمة في حق الانسان هي التعود.. لكن السقوط مرارا وتكرارا يجعل التعود أكبر أمان نعرفه. نخشى البدايات يتملكنا شعور قوي أن كل الحكايا تتشابه، لماذا نحاول مجددا إذا كنا محتومين بنفس المصير، نُفضل أن نحتفظ بالشظايا التي تبقّت لنا.

فقدان الرغبة في الاستيقاظ كل صباح، أمر مخيف جدا.. أن تسأل نفسك ما الجدوى من المحاولة مجددا!  تشعرُ أنكَ عاجزٌ عن الحركة، محاصرٌ في متاهةٍ لا مخرج منها، تطاردكَ أوهامكَ حتى في الاحلام.. تُخبركَ بلُؤْمٍ كم كنتَ أبلها ومغفلا. تشعرُ أنك فارغٌ جدا من الداخل، ربما لأنك استهلكتَ كل ما كنتَ تملك في للاشيء، انتظرت طويلا حتى ماعدت تبالي بالوصول لغايتك، غالبا ما يتحققُ ما كنا نبتغيه في نهاية الأمر ولكن من المؤسف كم يأتي متأخرا. للكون منطق غريب في تعذيبنا.

عندما كنا أطفالا عرفنا السعادة، كنا نجدها في التفاصيل الصغيرة، في وجبتنا المفضلة أو أثناء نُزهة ما أو حتى في غياب الواجبات المدرسية، كانت الحياة أكثر بساطة، الدفئُ الذي تمنحه قُبلة قبل النوم أو العناق الذي لا يحتاج سببا أو مناسبة، كنا نجد البهجة في كل شيء، كبرنا والطفل بداخلنا لم يكبر، وُلدت تفاصيل صغيرة أخرى تسعدنا. لكن الدائرة التي كانت تكفي الطفل ذات يوم أصبحت أكبر، حاجتنا للحب، للقبول ولتحقيق الذات جعلت الطفل يضأل شيئا فشيئا بعد كل تجربة سامة أو علاقة مُرهقة أو حتى موقف مُهينٍ أو جارح، يموت الطفل فينا و تموت معه الرغبة في كل شيء.


وجدة في  ١٨-١١-٢٠١٩

1 تعليقات