الملاذُ بداخلنا






من حين لآخر تضيق بي الحياة، تضيق بي غرفتي وتفاصيلي والأفكار المتضاربة في رأسي ، من حين لآخر.. تذبحني ذاكرتي ويضيقُ بي جسدي النحيف. وحده البحر يُهوّنُ كل هذا، البحرُ يُشفيني.. مهما كان بعيدا عني، أغمض أعيني وأتخيلني فوق الرمال، وحدي..تنحَتُنِي الشمس، لا صوت في أذني غير صوت الموج. تتوقف الحياة بالنسبة لي وأنا هناك، يتوقف الزمن، أتعرى من ألمي وعاري وذاكرتي، كأنني لم اُوجد قبل الموج. اُولد كل مرة حين أزور البحر.. وإذا عجز الجسد عن الذهاب إليه، الروح يكفيها الخيال. 

لكل واحد منا ملاذٌ خياليّ يهرب إليه، قد يكون جبلا أو بحرا أو قريةً زارها من قبل وتَركَ بعضا منه فيها.. وقد يكون الملاذ حُضْناً دافئاً أو حتى عُيُون أحدهم.لا فرق بين ملاذ وآخر ولا بين خيالٍ جامح وآخرَ عاديّ، فالراحة واحدة والهروب واحد.

       لطالما آمنتُ أننا نتركُ قطعةً من الروح في كل مكان نسافر إليه، وفي المقابل نحملُ معنا عند الرحيل شيئا من المكان، ربما مَا نحمله هو قطعٌ صغيرةٌ مجتمعة من أرواح الذين زاروا المكان قبلنا، لا أدري.. ولكن شيئا بداخلنا يتغير بعد السفر، أشعر أنني امرأةٌ جديدة في كل مرة أسافر فيها. أراقبُ الأشجار من النافذة وأنا في الطريق شجرةً..شجرة، أفكر رغما عني في كل الناس الذين شاهدَتْـــــهُم تلك الشجر، وكيف شعرَتْ تُجاه كلّ واحد منهم، فكما قال نزار قباني في قصيدته الدمشقية "وللمآذنِ كالأشجار أرواحُ".

أفكر الآن وأنا سجينة أمام حاسوبي، هل سأسافر مرّةً أخر؟ تحوم حولي الكثير من الأفكار السوداوية، من كان يتوقع أن تكون بداية عشرينيات هذا القرن هكذا، موتٌ وخوفٌ وترقّب.. عندما احتفلنا برأس السنة  منذ أربعة أشهر، لم تكن لدينا أدنى فكرة عما ينتظرنا، أتذكر أنني كنت سعيدة جدا لكوني في عشرينياتي وأعيش في بداية عشرينيات هذا القرن، فرحتي تلك تبدو الآن مثيرة للسخرية. غريبٌ أمر الحياة، يُسجنُ البشر فيُشْفى الكوكب، تعود الأسماك إلى مياه البندقية، تُزقزقُ العصافير طوال اليوم، تتجول الحيوانات البرية دون خوفٍ أو حذر.. حتى جبال الهيمالايا ظهرت بعد غياب سنين، وكأننا الخطر الوحيد فوق سطح الكوكب، سَعْيُنا للتطور والراحة والاستكشاف جعلنا أكبر خطر.

منذ البداية وأنا أتساءل، هل الوباء مجرد وباء ككل الأوبئة التي قرأنا عنها؟ أم أننا أخيرا ندفع ثمن الجرائم التي اقترفناها في حق كل أشكال الحياة فوق هذا الكوكب؟ الأمر الذي يزعجني بشدة هو أن الجرائم ستستمر بعد أن ينتهي كل هذا، لأننا لن ننقرض، فالوباء ليس بتلك الحدة، كما أننا لا نتعلم من أخطائنا ولا نعرف الاكتفاء.. ستعود المصانع لضخ السموم وحجب السماء، مصانع عدد منها لا يُنتج شيئا مفيدا أصلا، ستُحلق الطائرات التي تحمل سُياحا لا يكترثون لشيء غير المتعة،  ستعود السيارات بضجيجها ودخانها الخانق وزحامها الذي يُوترنا جميعا. لا أريدنا أن ننقرض، ولا أريد هذا الوضع أن يطول أكثر فأنا أيضا أشتاق للشوارع والمقهى والأصدقاء، وأشعر أنني في حاجة ماسة لعناق، ولكن.. هل يستحيل أن نحيا ونسافر ونستمتع دون أن نُؤذي كل أشكال الحياة من حولنا؟


أظنني قُلتُ الكثير، سأغمض أعيني قليلا، لأزور البحر..ملاذي. فأين ملاذكم؟

في ٢٢ نيسان ٢٠٢٠

1 تعليقات