سنوات الجامعة.











ما الذي يخطر ببالنا حين نفكر في الجامعة؟ حيرة اليوم الأول أم زحام الحافلة، أم يا ترى عَظمَةُ المُدرجات والصدى. تتضاربُ الأفكار في رأسي حين أفكر في الأمر. تبدو الجامعة في اليوم الأول كمتاهة خطيرة، تشعرُ أنكَ صغيرٌ جدا أمامها، الطّلبَة في كل مكان ولكنك لا تعرف أحدا،  يُخَيّلُ اليك أنّ لا غريب إلّاك، لا تجرؤ أن تسأل عن أي شيء، ربما هو الكبرياء وربما هو مجرد الخوف من تكسير الجليد. إيجاد الفصل أو المُدرج في اليوم الأول يُعدُّ إنجازا. طريقة التدريس تختلف جدا عن الثانوية، المحاضرة مجرد توجيه لرحلة بحث طويلة ، المُحاضر لا يُملي الدرس بل يتحدثُ بسرعة لا يستطيعُ قلمكَ أن يُواكبها، تتعلمُ أن تكتبَ الأفكار الأساسية في كراستك. في البداية تتعود على الانتظار.. الانتظار في طابور شؤون الطلبة، انتظار الحافلة، انتظار المنحة وانتظارات عديدة أخرى.

يتطلب الانسجام وتكوين الأصدقاء بعض المهارات الاجتماعية، لذلك قد يجد الطالب الخجول أو المنطوي صُعُوبات في التأقلم. الجامعة فضاء يَسَعُ الجميع لذلك يجب أن يتعلم الطالب أن يتقبل الاختلاف وأن يفهم أننا لا نفكر بنفس الطريقة ولم نأتِ من نفس الأسرة، لكلٍّ منا خلفيته.بطبيعتنا نميل أن نُصادق من يُوافقوننا الرأي ومن يحملون نفس أفكارنا وايديولوجيتنا، وهنا يكمن سحر الجامعة، في الاصطدام بمن يختلفون عنا جذريا، فيدفعنا الفضول أن نخوض في نقاشات  عميقة معهم، الأهم في كل هذا أن نضع التَّعصب جانبا، هكذا نستطيع أن نرى أن الحقيقة ليست واحدة بل انها متعددة الأوجه.. تنطلق رحلة البحث عن الذات، نضع كل ما تعلمناه سابقا وآمنا أنه حقيقة مطلقة موضع شك.

حضور الحصص الى حد ما غير إجباري، ما يُسهل الدراسة على الموظفين والمتزوجين حديثا، أما بالنسبة للطلبة المتفرغين للجامعة فأنا أجد غياباتهم نوعا من الكسل واللامسؤولية، يدفعون ثمن غياباتهم عندما تقترب الامتحانات ويكتشفون أن الكتب والمطبوعات غير كافية للتحضير، فلَذَّةُ الجامعة في تلك النقاشات التي تولد داخل المحاضرة إضافةً إلى الحلقيات في الحرم الجامعي، حيث أن الطالب يجد نفسه يتلقى تكوينا علميا وثقافيا وسياسيا، وهذا ما تتميز به كليات الجامعة مقارنةً بمدارسها العليا الأخرى.

تختلف تجربة الجامعة من طالب لآخر، كرس الكثير سنواتها للدراسة فقط، اكــتفوا بمكــتبات كلياتهم أو مكـــتبة الحي للدراسة والتحضير، حتى علاقاتهم مع الطلبة الآخرين لم تتجاوز حدود الزمالة. بينما عاشها آخرون كمغامرة، جربوا فيها المحظور وتجاوزوا الخطوط الحمراء التي رسمها المجتمع، فللجامعة وجوه عديدة بعضها لا يراه الجميع، كالسهرات والحفلات والرحلات وقصص الحب والعلاقات العابرة. هناك من يؤمن بأن هذا الترفيه  ضروري لطلبة الجامعة فالتوتر والضغط النفسي الذي يعانونه ليس هَيّناً، وهناك من يعارض كل هذا ويعتبر أي نشاط لا علاقة له بالدراسة أمر سيء. أما أنا فأرى أننا نعيشُ مرة واحدة فقط، ولكل منا طريقته في شقِّ دربه، لا يحق لأي أحد أن يتدخل في اختيارات الآخر لكن سنوات الجامعة تمر في لمح البصر لذلك أهم شيء ألا ينشغل الطالب بالمتعة ويهمل دراساته، فالتأرجح بين اللذة والألم أمر لا مفر منه.

السكن في الحي الجامعي أو في سَكَنٍ مشترك مع طلبة آخرين، يختلف اختلافا كليا عن الجو العائلي. التعايش مع عادات الآخرين والاعتماد على النفس يتطلب صبرا واجتهادا. تُقَدّرُ والديك أكثر من أي وقت مضى، وأنتَ تسدد فواتيرك، أنت تطهو وجباتك، وأنت تخرج مسرعا صباحا دون وجبة فطور، وعلى وجه الخصوص حين تكون طريح الفراش ولا أحد بجانبك  ليعتني بك.تتخلى عن أنانيتك شيئا فشيئا، تتغير قليلا كل شهر، الحياة ليست لطيفة دوما، ومخططاتك لا تنجح في كل مرة ولكنك تتعلم أن تفرح بنجاحاتك الصغيرة وأن تُقدر التفاصيل البسيطة. رغم صعوبة الاستقلالية إلاّ أن الطالب لا يشعر بأنها غيَّرته إلا حين يزور مسقط رأسه أو منزل أسرته، رغم بهجة اللّمة والحب إلا أنه يحن لغرفته الجامعية، للرفاق والمطبخ الفوضوي وحرية العيش بدون رقابة. هنا تبدأ مرحلة النضج و النضج هو أن تخشى الخذلان، لا أقصد أن تخذل الآخرين بل أن تخذل نفسك، أن تكتشف أنك تضع نفسك في مواقف لا تليق بك، أن تحطم أحلامك بسبب تخاذلك، أن تمنح البعض أكثر مما يستحقون، النضج هو أن تضع حدا لكل هذا و تواجه مرآة  حقيقتك من حين لآخر.

تبقى السنوات الجامعية من أروع التجارب التي يعيشها الانسان، وتظل ذكرياتها خالدة للأبد. يتحسر الكثير لأنهم أضاعوا فرصة الولوج إلى الجامعة، ومهما تذمر الطالب وتعب إلا أنه في نهاية الأمر يفتخر بما عاشه خلالها. 


وجدة في ٨-١٠-٢٠١٩