القاع..



      

       استيقظتُ هذا الصباح وأنا على يقين أن لا شيء يتغير. قد تتغير واجهات المحلات، قد تُهدمُ المنازل البهية كي تصعدَ على رفاتها ناطحات سحاب تحجب الشمس والهواء، لا مكان فيها لنباتات ولا زهور. أتأمل المدينة فأراها لوحة رسام ليس بفنان، يغير فيها كما يشاء، لكن الألوان لا تتغير والريشة لا تتغير، جوهر المدينة خالد، كل ما فيها من بؤس وأحكام مسبقة يظل كما هو. تُجهضُ الأحلام في مدينتي والأيام تُعيدُ نفسها. كل شيء يتشابه، الجميع أصبح نُسَخاً مُكرّرة. حتى المقاهي.. يراها البعض مقابر للأحياء بينما يجدها البعض الآخر الملاذ الوحيد في مدينة تحتضر، مدينة تتكرر المهرجانات السنوية فيها، حيث تصعد نفس الوجوه للمنصات، وتُكرّمُ نفس الشخصيات كل سنة، كل شيء ثابت وكأننا في مسرحية. كل شيء يتطلب تصريحا، الرقص والغناء والفرح حتى التجول ليلا ليس للجميع. الحافلات دوما مكتظةـ الكل يدندن لحنا حزينا، وفي الشارع لا أحد يسرع، لماذا سيسرع؟ الزمن هنا يمر بطيئا جدا. 

    الجميع ينتظر شيئا لن يأتي. من يحلم بالنجاح يتمسك بأول طوق نجاة ليهرب من هنا، ومن يحلم بالحب ينتهي به المطاف في علاقة تحتضر، حيثُ تُصارع الزوجة كي تنال رضا الحماة والأقارب وأهلها والمجتمع، ويهرب الزوج بعد سنوات قليلة للسهر مع الرفاق والعاهرات، بينما الأطفال يدفنون أنفسهم في الفايسبوك وألعاب الفيديو، ما عاد أطفال هذا الجيل يشاهدون الرسوم المتحركة. أنا لا أعمم ولكن كلامي هذا من نسج هذه المدينة، من حكايا النساء في صالونات التجميل وحمام الحي، من غياب الرجال عن بيوتهم من الصباح حتى الفجر.

     ألا نستمتع كثيرا بأغاني الراي؟ حيث الغناء عن الغربة والقلب المحطم والخيانات والبحث عن الذات والآخر الذي سيتحملنا ويحبنا كما نحن، نجد أنفسنا في أغاني الوجع لأنها الحقيقة الوحيدة التي عرفناها منذ صفعتنا الحياة للمرة الأولى.  أما الآن فقد وُلد ما سميّ بالواي واي.. كلام بلا قافية ولا فكرة عامة، لكن الشهرة أصبحت  أسهل شيء في عصرنا، ولّتْ تلك الأيام التي كانت الجرائد فيها تكتب عن ولادة أغنية خالدة، نسَجَ كلماتها شاعر حقيقي وسيغنيها فنان مقتدر، أصبح باستطاعة أي أحد أن يحقق أعلى المبيعات ويتسلل لعقول الأطفال ويخرب الذوق العام. أسألني أحيانا أوحدي من تنتظر كل صباح أن يكون اليوم مختلفا؟ لا أريد أن أسقط، القاع مُكْتَظٌّ جدا !



 وجدة في  ٢٤-٩-٢٠١٩

1 تعليقات